ليندن ... فسيفساء عالمية !
في بدايات تعوده و تأقلمه مع الجو الألماني ، اختار أن يذهب بعيدا ، و أن يعيش وحيدا فريدا ، هو الذي لم يجرب يوما قط أن يصنع ذلك ، بل كانت الوالدة هي الملاذ الأخير فيما يتعلق بالطبخ و الكنس و متطلبات الحياة الضرورية ، فقد كان في منزل والديه كالضيف ، يأتي فقط ليأكل و يضاحك مضيفيه ، ليذهب فيما بعد إلى حال سبيله ، و لكنها كانت تجربة صعبة ، فبداية ، كان عليه أن ينتقي أحد أحياء المدينة ، يكون واجب الكراء فيها منخفضا نسبيا ، و تكون قريبة لمحل الدراسة فلم يجد إلا ليندن ، و ليندن هذا شارع ، أو لنقل ربع من ربوع المدينة ، و كان يستحق أن يطلق عليه فسيفساء عالمية ، بامتياز ، حاز هذا الربع بين جنباته كل العالم ، جنسيات من مختلف الأقطار ، حتى أن الداخل إليه ، ليسمع الألمانية ، الإيطالية ، الإسبانية ، التركية ، المغربية ، اللبنانية ، و باقي اللهجات في تناسق غريب ، و الكل يعيش ، فذكره هذا الجو على غرابته ، ببعض التعايش الإجتماعي الذي كبر فيه و ترعرع ، و انشرح قلبه له ، خاصة أنه يقرب الجامعة التي فيها سيدرس ، فبدأ أول ما بدأ بالبحث عن منزل للكراء في هذه الناحية من المدينة ، فاتصل بعشرات الأرقام ، حتى أخد موعدا مع مالكها ، فكانت امرأة من الريف الألماني ، جاوزت الستين بقليل إذا صح توقعه ، رمقته بنظرة فاحصة و راحت تستفسر عن وضعه في ألمانيا :
ــ لعلك أجنبي عن ألمانيا ، و تأتي إليها لأول مرة
ـــ تماما أيتها السيدة هو ذاك ، كيف عرفت ذلك
ــ لهجتك بها شيء من التعثر ، غير أن الأمر سيتطلب بعض الوقت حتى تتعود على اللغة الألمانية ، و ربما ستشعر يوما بالسأم من إتقانها
ـــ لا يا سيدتي ، لا أظن ذلك ، فالذي يحب شيئا لا يسأمه
ــ إذا أنت تحب الألمان !!
شعر بالإحراج من هذا السؤال ، فبحث عن مخرج ذكي قائلا :
ــ لغتكم تستحق الإعجاب ، و لم أر حتى الآن مكروها من ألماني قط ، فلم يتوجب علي كره أو سأم قوم لم يتسببوا في أذاي ؟
ــ بالرغم من تعثر لغتك فأنت ثرثار بالمعنى الإيجابي للكلمة ، ربما يكون لك شأن في ميدان الكتابة
شعر بضحكة خفية تراوده عن حزمه في ذلك الوقت ، فلم يكن يعرف أن قسماته و كلامه سينمان يوما عن اتجاهه الدراسي
ــ تماما يا سيدتي ، فأنا مبتلى بالكتابة منذ نعومة أظفاري
ــ حسنا فلنتكلم في المهم الآن ، الشقة صغيرة ، و ستكلفك 230 أوروها ، و يجب عليك أن تعرف أني لا أحب أفاعيل الأجانب ، غير أني ارتحت لك ، و أتمنى أن لا تكون مثل الآخرين
حز في نفسه ما سمع ، غر أنه كتمه في قلبه ، و الحق أنه لا يجب عليه التبرم ، لأن أفاعيل ما يسمون بالمسلمين في بلاد الغرب تخجل منها حتى الأحجار ، لا يجب أن يعمم نعم ، غير أن هناك فئة لا بأس بها من مسلمي اليوم الذين يعيشون في ألمانيا يفعلون أشياء لا تمت للإسلام بصلة
ـــ كوني مطمئنة يا سيدتي ، فليس لي أصدقاء ، إلا قليل القليل ، و كما ترين ، فأنا في عرف الإعلام اليوم إرهابي ، ألا ترين لحيتي الآخذة في النمو يوما بعد يوم !
ــ ليس على ملامحك أثر أولائك الأوغاد ، عيناك لا تنم بغدر !
ــ كل الشكر لك ، و بالنسبة لقيمة الكراء ، ستصلك أول كل شهر على رصيدك في البنك
ــ حسنا ، العمارة التي ستسكن فيها ليس فيها إلا الألمان ،و أكثرهم من المعمرين ، فلا تأبه إذا ما عاملوك بشيء من اللا تقبل ، خاصة أنهم من عهود النازية
ــ حسنا فليساعدني الله ، إن شاء الله لن يكون هناك ما يدعو للقلق
ــ هيا إمض هنا أيها الشاب ، و ليساعدك الرب في حياتك ، تذكرني حقا بشبابي ، في عينيك وميض عجيب من الحيوية ، و الرغبة في تحقيق الهدف
ـــ شكرا لك ايتها السيدة
و كانت تلك المرأة تحمل من الأخلاق الشيء الكثير ، حتى أنها في بعض الأشهر ، كان يستأذنها في التأخر في الدفع بعض الأيام أو حتى إلى نصف الشهر ، فلا تمانع ، و تقبل عن رضى تام !
كانت البنايات في ألمانيا متشابهة إلى حد كبير ، فلم ير خلال تجواله في تلك البلاد ، ما رآه في الكثير من الدول العربية من اختلاف غريب ، و تبيان واضح للطبقية ، بل إن البنايات في ألمانيا تشبه إلى حد كبير البنايات في الرسوم المتحركة ، نمط واحد غلاب على كل البلاد ، حيث لا يمكنك التفريق بين الغني و الفقير ، و هذا من ذكاء الألمان ، نعم يوجد في امانيا أغنياء ، و منازل فردية فارهة ، غير أن لها مكانها البعيد نسبيا عن العمارات التي يسكنها العامة ، و على العموم كانت البنايات في المانيا لها أسقف من القرميد الأملس ذي اللون الأحمر !
ليندن ، ذلك الربع العجيب ، و كان ارتباطه به ، ككتاب جميل ، كحكايات الصغار الخرافية ، حيث يطير بخياله الناعم إلى دنيا الفرح ، في ظل الغربة و الإحساس بالوحدة أحب هذا الحي حبا شديدا ، أحب انتماءه له ، أحب أزقته الضيقة ، و الواسعة ، أحب حتى اقصى الحب النهر الجاري تحته ، كسفينة تطير في الأفق من دون ربان ، كان يخرج في الليل البهيم ، حينما السماء في عرس بين النجم صافية تكون ، و ينظر مناجيا قمرا بدرا ، يحدثه ، يساله عن رفاقه و أحبابه على بعد ألاف الكيلومترات ، و حينما يبلغ به الحنين مداه الأقصى ، كان يحول اهتمامه إى جمال المكان و رومانسيته ، حتى لا يفقد دموعه الغالية وحيدا في بلاد الجرمان ! حتى عمارته التي كان فيها يقطن ، كانت كالدرة بين كومة من الحدائق الجميلة ، ومراتع لعب الأطفال الصغار ، ياه ، ما أجمل عيونهم الزرق ، ما أجمل ضحكاتهم ، ما أجمل خفة حركاتهم ، إنهم كنسيم الهواء بارد شيئا ما غير ان انتعاشه ينسي برودته !
كان يراقب بيوت الألمان التي تقبع في هذا الربع ، كأنها مجموعة من بسط واقفة ، تشهد على مر الزمان هناك ، ففي ألمانيا ، العمارات كلها تتشابه ، خاصة في المناطق الشعبية كهذه ، و من شدة فرحته بذلك المكان ، كان ينزل كلما انتهى من أشغاله ، و يطلق العنان لرجليه لا ينوي على جهة ، تذهبان به حيث ترومان ، حتى في أيام الشتاء و الثلج ، حين تعود على الوضع و الجو ، كان يخرج في جولته الليلية الشبه يومية ، لاكتشاف هذه الأرض ! و كان يروقه جدا ، أن يكتشف العجائز و الأطفال ، حينما يحلو الربيع جوا مثلا ، و تشرق الشمس بلطفها ، لتدفئ ما استهلكه برد الشتاء من الأجساد و الأرواح ، فكان ليندن في الخريف كعجوز يتأهب للرحيل ، في الشتاء كعجوز نائم ، و في الربيع ينفض عنه غبار البرد ، ثم يأتي الصيف فيضحى ليندن ، فرحة تتلألأ ، فتغدو الأشجار ، مورقة الأزهار وارفة الثمار ، كأنما ، تراودك عن جوعك ! و كان الصيف بحق أجمل الفصول في ألمانيا على الإطلاق !
الشيء الوحيد الذي لم يرق له ، و لم يعره انتباها قبل أن يمضي عقد الكراء ، هو الكنيسة المجاورة لبيته ، و كان انزعاجه شديدا حينما علم بذلك و اكتشفه ، غير أنه تغاضى عن الأمر، لسببين ، أولاهما ، أنه أجنبي عن البلاد ، و ألمانيا بلاد ككفر ، فلا يعقل أن يسمع الأذان مثلا ساعة الفجر ، و الثاني ، أنه استطاب العيش في ذلك الربع بالذات ، فلم يرم أن يغير هذا المكان الجميل ، الذي ضمه ، كضمة الأم لابنها ، هذا بالإضافة إلى أنه مكان يساعد كثيرا على الكتابة و الإنشاء ، ما خفف من وطأة هذا على نفسه ، و مناها ، بأيام سعيدة ساحرة هاهنا ! كمن يمني طفلا صغيرا بحلو الكلمات و الشوكولا ، و هو يعرف أنه يحايله ، فيتناوم له بشكل يجعله يضمه إلى قلبه !
و كان في هذا الربع بالذات ، شيئ عجيب ، اكتشفه في حينه ، و هو أنه يشهد كل أسبوع ، في منطقة معينة ، في ساحة البلدية هناك ، سوقا أسبوعيا ، يأتي فيه الفلاحون بمنتجاتهم من مختلف المناطق المجاورة لعاصمة ولاية ساكسن السفلى : هانوفر ، و اختير صباح السبت ، موعدا لهذه السوق التي تتخذ من الهواء الطلق مكانا لها ، و كانت المنتوجات التي يشتريها المرء من هناك ، منتوجات لم تداخلها الكيماويات ، و لم تتأثر بما يفعله بعض الفلاحين في المدن الكبرى من أجل تسريع الإنتاج ! فكان ذلك السوق لوحده متعة كبرى ، كبيرة حدا يصعب معه الوصف ، حيث تتراص الطاولات ، و تمتلئ الساحة بضجيج الباعة ، و التخفيضات التي يتنافسون فيها لجر الزبائن إليهم ! و كان هذا السوق ، وجهته الدائمة أسبوعيا ليبتاع أشياء جميلة مفيدة ، و رخيصة الثمن ، و لكن ، رغم كل شيء ، كان يفتقد تلك اللذة في الخضار التي كان يجدها في بلده ! ربما ساهم إحساس الغربة في تضخيم هذا الشعور ! ربما هكذا كان !
بعيدا عن الكنيسة الكبيرة ببضع أمتار ، توجد مقبرة للنصارى ، و إنه ليتذكر أنه في إحدى الليالي ، و أثناء اكتشافه للمكان ، وجد نفسه قبالتها ، ففر هاربا مفزوعا ، غر أنه و في شدة فزعه ، كان يبيت النية على الرجوع إليها نهارا ، في اليوم الموالي أتى إليها ، دخل ، فلم يجد فزعا ، كذلك الذي يستشعره حينما كان يزور قبور المسلمين في بلاده ، لم يستشعر رائحة الموت و الفناء ، هؤلاء القوم تفننوا في تزيين قبورهم ، حتى أصبح زائرها يستأنس بها ، أو لعل إحساسه نابع عن جهل بإحساس الألمان حينما يزورون هذا المكان ، ربما كانت هذه الزخرفة ، تبعث في قلوبهم الإحساس بالموت و الوداع ، من يدري ...
كان الشارع الرئيسي الذي يشق المنطقة التي اختارها سكنى له يحوي الكثير من المحلات التجارية ، من الخضار ، إلى المقاهي ، إلى بائعي الشورما اللبنانية و التركية ، إلى يهود الذهب و الإبريز ، مرورا بأكشاك بيع اللوطو و القمار و السجائر ، و كان الميترو بين هذا و ذاك ، يشق الشارع نضفين ذهابا و إيابا ، في كل ثلاث دقائق ، و يزين كل هذا الحمائم التي تعودت أن تحط فوق هذا الشارع ، كمسافر آت من مكان بعيد حط فوق مطار مأهول ، من بين المحلات التجارية التي كان يرتادها قبل أن يحترف مهنة الطبخ في بيته ، مطعم للأكلات اللبنانية ، حيث تعرف على مأكولات هذا البلد لأول مرة ، و أغرم به ، و هناك اكتسب معارف جددا و كان الألمان من المتوافدين على هذا المطعم الصغير يبدون إعجابهم بالأكلات الشرقية ، ما يدر ربحا ماديا هاما على صاحب المحل ، و الذي يشغل صاحبه ، أناسا من جنسيات عربية مختلفة ، المهم ، كان ذلك المطعم وجهته الخاصة للأكل ، و للأكل فقط ، رغم معرفته بأناسه ، و زبنائه
في زاوية الشارع يقبع المسجد التركي الكبير ، و الذي يعتبر الملاذ الثاني ن أو لنقل الموطن الثاني لمآت الأتراك ، تقبع الراية التركية فيه فوق المحراب باتجاه القبلة ، و يغرق في بدع كثيرة ، سيذكرها فيما بعد في موطن آخر
و في وسط الشارع ، تعرف على محل سايبر كافي ، و في نفس الوقت كان يحوي مخادع هاتفية ، اكتشفه بالقدر يوما ، حينما توجه إلى الهاتف من أجل التكلم مع أقربائه لدقائق يبتلع خلالها الجهاز ما بجيبه من نقود ، ليعود إليه فيما بعد محملا بمثلها أو أكثر من الأوروهات ليودعها فيه مقابل كليمات ، كمن يقايض جوعه بشيئ ثمين ، حين انتهائه من المكالمة ، أشار له صاحب المحل أن تعال ، فاقترب منه و سأله بالألمانية :
ـــ عذرا هل تعرفني يا سيدي ؟
فأجابه بلهجة لبنانية فهم أغلبها :
كلا ، و لكني أراك دوما هنا ، من أي البلاد أنت
ليجيبه هو بلهجة مصرية :
إيه اللي جابك من لبنان على هنا يا عم ، سايب لبنان ، و الجو الجميل ، و جي هنا تعمل إيه
ـــ ما شاء الله ، مصري ، يا أهلا و سهلا ، أجدع ناس
ــ ربنا يكرمك
ـ تشتغل ؟
ــ لسه ، بس بادور ، عالعموم مش هاقدر أشتغل ، إلا لما أبتدي جامعة
ــ طيب تشتغل معايا ؟
ــ ربنا يسهل ، اسم حضرتك إيه ؟
ــ حسن !
ــ عاشت الأسامي ، أنا يعقوب ، مهدي يعقوب
ـ أهلا و سهلا
ـ أهلا بيك
ــ يعني اتعودت شوية على جو ألمانيا ؟
ــ يعني ...
ــ بس ما فيش مساجد للشيعة هنا للأسف
ـ شيعة ؟ يعني إيه شيعة !
ــ شيعة آل بيت النبي !
ــ طب عن إذنك ، ورايا مشوار إن شاء الله نتقابل بعدين
و ذهب ، تجره خطواته ، و كلمة شيعة تتردد في ذهنه ، و هو يحاول فهم ما قاله ذلك الرجل اللبناني ، و إنه ليعترف أنه لم يسمع بتلك الكلمة من قبل و لا قرأ عنها ، فعرف تقصيره ، و اكتشف تهاونه في الإطلاع ، لأنها بدون شك إحدى الفرق التي تنتسب للإسلام ، و جهلها يعني الجهل بأحد الطرق التي يمكن أن تودي به في الأخير إلى الهاوية ، كان ذلك اللقاء هو الأول له بالطرف الآخر ، الذي ما سمع عنه إلا اليوم ، ذهب تجره قدماه ! شعر ببعض الخوف ، لسبب واحد ، أنه في غد على موعد مع مركز الهجرة و المهاجرين من أجل الحصول على وثيقة الإقامة البينية على الأراضي الألمانية ، و كان مجرد التفكير في الأمر ، يجلب له عسر الهضم ...
في غد :
شرطة الهجرة ، الوجه الآخر لألمانيا
مهدي يعقوب
-
يعقوب مهدياشتغل في مجال نُظم المعلومات .. و اعشق التصوير و الكتابة