ذكريات طالب في بلاد الجرمان - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

ذكريات طالب في بلاد الجرمان

  نشر في 18 يناير 2017 .

ليندن ... فسيفساء عالمية !

في بدايات تعوده و تأقلمه مع الجو الألماني ، اختار أن يذهب بعيدا ، و أن يعيش وحيدا فريدا ، هو الذي لم يجرب يوما قط أن يصنع ذلك ، بل كانت الوالدة هي الملاذ الأخير فيما يتعلق بالطبخ و الكنس و متطلبات الحياة الضرورية ، فقد كان في منزل والديه كالضيف ، يأتي فقط ليأكل و يضاحك مضيفيه ، ليذهب فيما بعد إلى حال سبيله ، و لكنها كانت تجربة صعبة ، فبداية ، كان عليه أن ينتقي أحد أحياء المدينة ، يكون واجب الكراء فيها منخفضا نسبيا ، و تكون قريبة لمحل الدراسة فلم يجد إلا ليندن ، و ليندن هذا شارع ، أو لنقل ربع من ربوع المدينة ، و كان يستحق أن يطلق عليه فسيفساء عالمية ، بامتياز ، حاز هذا الربع بين جنباته كل العالم ، جنسيات من مختلف الأقطار ، حتى أن الداخل إليه ، ليسمع الألمانية ، الإيطالية ، الإسبانية ، التركية ، المغربية ، اللبنانية ، و باقي اللهجات في تناسق غريب ، و الكل يعيش ، فذكره هذا الجو على غرابته ، ببعض التعايش الإجتماعي الذي كبر فيه و ترعرع ، و انشرح قلبه له ، خاصة أنه يقرب الجامعة التي فيها سيدرس ، فبدأ أول ما بدأ بالبحث عن منزل للكراء في هذه الناحية من المدينة ، فاتصل بعشرات الأرقام ، حتى أخد موعدا مع مالكها ، فكانت امرأة من الريف الألماني ، جاوزت الستين بقليل إذا صح توقعه ، رمقته بنظرة فاحصة و راحت تستفسر عن وضعه في ألمانيا :

ــ لعلك أجنبي عن ألمانيا ، و تأتي إليها لأول مرة

ـــ تماما أيتها السيدة هو ذاك ، كيف عرفت ذلك

ــ لهجتك بها شيء من التعثر ، غير أن الأمر سيتطلب بعض الوقت حتى تتعود على اللغة الألمانية ، و ربما ستشعر يوما بالسأم من إتقانها

ـــ لا يا سيدتي ، لا أظن ذلك ، فالذي يحب شيئا لا يسأمه

ــ إذا أنت تحب الألمان !!

شعر بالإحراج من هذا السؤال ، فبحث عن مخرج ذكي قائلا :

ــ لغتكم تستحق الإعجاب ، و لم أر حتى الآن مكروها من ألماني قط ، فلم يتوجب علي كره أو سأم قوم لم يتسببوا في أذاي ؟

ــ بالرغم من تعثر لغتك فأنت ثرثار بالمعنى الإيجابي للكلمة ، ربما يكون لك شأن في ميدان الكتابة

شعر بضحكة خفية تراوده عن حزمه في ذلك الوقت ، فلم يكن يعرف أن قسماته و كلامه سينمان يوما عن اتجاهه الدراسي

ــ تماما يا سيدتي ، فأنا مبتلى بالكتابة منذ نعومة أظفاري

ــ حسنا فلنتكلم في المهم الآن ، الشقة صغيرة ، و ستكلفك 230 أوروها ، و يجب عليك أن تعرف أني لا أحب أفاعيل الأجانب ، غير أني ارتحت لك ، و أتمنى أن لا تكون مثل الآخرين

حز في نفسه ما سمع ، غر أنه كتمه في قلبه ، و الحق أنه لا يجب عليه التبرم ، لأن أفاعيل ما يسمون بالمسلمين في بلاد الغرب تخجل منها حتى الأحجار ، لا يجب أن يعمم نعم ، غير أن هناك فئة لا بأس بها من مسلمي اليوم الذين يعيشون في ألمانيا يفعلون أشياء لا تمت للإسلام بصلة

ـــ كوني مطمئنة يا سيدتي ، فليس لي أصدقاء ، إلا قليل القليل ، و كما ترين ، فأنا في عرف الإعلام اليوم إرهابي ، ألا ترين لحيتي الآخذة في النمو يوما بعد يوم !

ــ ليس على ملامحك أثر أولائك الأوغاد ، عيناك لا تنم بغدر !

ــ كل الشكر لك ، و بالنسبة لقيمة الكراء ، ستصلك أول كل شهر على رصيدك في البنك

ــ حسنا ، العمارة التي ستسكن فيها ليس فيها إلا الألمان ،و أكثرهم من المعمرين ، فلا تأبه إذا ما عاملوك بشيء من اللا تقبل ، خاصة أنهم من عهود النازية

ــ حسنا فليساعدني الله ، إن شاء الله لن يكون هناك ما يدعو للقلق

ــ هيا إمض هنا أيها الشاب ، و ليساعدك الرب في حياتك ، تذكرني حقا بشبابي ، في عينيك وميض عجيب من الحيوية ، و الرغبة في تحقيق الهدف

ـــ شكرا لك ايتها السيدة

و كانت تلك المرأة تحمل من الأخلاق الشيء الكثير ، حتى أنها في بعض الأشهر ، كان يستأذنها في التأخر في الدفع بعض الأيام أو حتى إلى نصف الشهر ، فلا تمانع ، و تقبل عن رضى تام !

كانت البنايات في ألمانيا متشابهة إلى حد كبير ، فلم ير خلال تجواله في تلك البلاد ، ما رآه في الكثير من الدول العربية من اختلاف غريب ، و تبيان واضح للطبقية ، بل إن البنايات في ألمانيا تشبه إلى حد كبير البنايات في الرسوم المتحركة ، نمط واحد غلاب على كل البلاد ، حيث لا يمكنك التفريق بين الغني و الفقير ، و هذا من ذكاء الألمان ، نعم يوجد في امانيا أغنياء ، و منازل فردية فارهة ، غير أن لها مكانها البعيد نسبيا عن العمارات التي يسكنها العامة ، و على العموم كانت البنايات في المانيا لها أسقف من القرميد الأملس ذي اللون الأحمر !

ليندن ، ذلك الربع العجيب ، و كان ارتباطه به ، ككتاب جميل ، كحكايات الصغار الخرافية ، حيث يطير بخياله الناعم إلى دنيا الفرح ، في ظل الغربة و الإحساس بالوحدة أحب هذا الحي حبا شديدا ، أحب انتماءه له ، أحب أزقته الضيقة ، و الواسعة ، أحب حتى اقصى الحب النهر الجاري تحته ، كسفينة تطير في الأفق من دون ربان ، كان يخرج في الليل البهيم ، حينما السماء في عرس بين النجم صافية تكون ، و ينظر مناجيا قمرا بدرا ، يحدثه ، يساله عن رفاقه و أحبابه على بعد ألاف الكيلومترات ، و حينما يبلغ به الحنين مداه الأقصى ، كان يحول اهتمامه إى جمال المكان و رومانسيته ، حتى لا يفقد دموعه الغالية وحيدا في بلاد الجرمان ! حتى عمارته التي كان فيها يقطن ، كانت كالدرة بين كومة من الحدائق الجميلة ، ومراتع لعب الأطفال الصغار ، ياه ، ما أجمل عيونهم الزرق ، ما أجمل ضحكاتهم ، ما أجمل خفة حركاتهم ، إنهم كنسيم الهواء بارد شيئا ما غير ان انتعاشه ينسي برودته !

كان يراقب بيوت الألمان التي تقبع في هذا الربع ، كأنها مجموعة من بسط واقفة ، تشهد على مر الزمان هناك ، ففي ألمانيا ، العمارات كلها تتشابه ، خاصة في المناطق الشعبية كهذه ، و من شدة فرحته بذلك المكان ، كان ينزل كلما انتهى من أشغاله ، و يطلق العنان لرجليه لا ينوي على جهة ، تذهبان به حيث ترومان ، حتى في أيام الشتاء و الثلج ، حين تعود على الوضع و الجو ، كان يخرج في جولته الليلية الشبه يومية ، لاكتشاف هذه الأرض ! و كان يروقه جدا ، أن يكتشف العجائز و الأطفال ، حينما يحلو الربيع جوا مثلا ، و تشرق الشمس بلطفها ، لتدفئ ما استهلكه برد الشتاء من الأجساد و الأرواح ، فكان ليندن في الخريف كعجوز يتأهب للرحيل ، في الشتاء كعجوز نائم ، و في الربيع ينفض عنه غبار البرد ، ثم يأتي الصيف فيضحى ليندن ، فرحة تتلألأ ، فتغدو الأشجار ، مورقة الأزهار وارفة الثمار ، كأنما ، تراودك عن جوعك ! و كان الصيف بحق أجمل الفصول في ألمانيا على الإطلاق !

الشيء الوحيد الذي لم يرق له ، و لم يعره انتباها قبل أن يمضي عقد الكراء ، هو الكنيسة المجاورة لبيته ، و كان انزعاجه شديدا حينما علم بذلك و اكتشفه ، غير أنه تغاضى عن الأمر، لسببين ، أولاهما ، أنه أجنبي عن البلاد ، و ألمانيا بلاد ككفر ، فلا يعقل أن يسمع الأذان مثلا ساعة الفجر ، و الثاني ، أنه استطاب العيش في ذلك الربع بالذات ، فلم يرم أن يغير هذا المكان الجميل ، الذي ضمه ، كضمة الأم لابنها ، هذا بالإضافة إلى أنه مكان يساعد كثيرا على الكتابة و الإنشاء ، ما خفف من وطأة هذا على نفسه ، و مناها ، بأيام سعيدة ساحرة هاهنا ! كمن يمني طفلا صغيرا بحلو الكلمات و الشوكولا ، و هو يعرف أنه يحايله ، فيتناوم له بشكل يجعله يضمه إلى قلبه !

و كان في هذا الربع بالذات ، شيئ عجيب ، اكتشفه في حينه ، و هو أنه يشهد كل أسبوع ، في منطقة معينة ، في ساحة البلدية هناك ، سوقا أسبوعيا ، يأتي فيه الفلاحون بمنتجاتهم من مختلف المناطق المجاورة لعاصمة ولاية ساكسن السفلى : هانوفر ، و اختير صباح السبت ، موعدا لهذه السوق التي تتخذ من الهواء الطلق مكانا لها ، و كانت المنتوجات التي يشتريها المرء من هناك ، منتوجات لم تداخلها الكيماويات ، و لم تتأثر بما يفعله بعض الفلاحين في المدن الكبرى من أجل تسريع الإنتاج ! فكان ذلك السوق لوحده متعة كبرى ، كبيرة حدا يصعب معه الوصف ، حيث تتراص الطاولات ، و تمتلئ الساحة بضجيج الباعة ، و التخفيضات التي يتنافسون فيها لجر الزبائن إليهم ! و كان هذا السوق ، وجهته الدائمة أسبوعيا ليبتاع أشياء جميلة مفيدة ، و رخيصة الثمن ، و لكن ، رغم كل شيء ، كان يفتقد تلك اللذة في الخضار التي كان يجدها في بلده ! ربما ساهم إحساس الغربة في تضخيم هذا الشعور ! ربما هكذا كان !

بعيدا عن الكنيسة الكبيرة ببضع أمتار ، توجد مقبرة للنصارى ، و إنه ليتذكر أنه في إحدى الليالي ، و أثناء اكتشافه للمكان ، وجد نفسه قبالتها ، ففر هاربا مفزوعا ، غر أنه و في شدة فزعه ، كان يبيت النية على الرجوع إليها نهارا ، في اليوم الموالي أتى إليها ، دخل ، فلم يجد فزعا ، كذلك الذي يستشعره حينما كان يزور قبور المسلمين في بلاده ، لم يستشعر رائحة الموت و الفناء ، هؤلاء القوم تفننوا في تزيين قبورهم ، حتى أصبح زائرها يستأنس بها ، أو لعل إحساسه نابع عن جهل بإحساس الألمان حينما يزورون هذا المكان ، ربما كانت هذه الزخرفة ، تبعث في قلوبهم الإحساس بالموت و الوداع ، من يدري ...

كان الشارع الرئيسي الذي يشق المنطقة التي اختارها سكنى له يحوي الكثير من المحلات التجارية ، من الخضار ، إلى المقاهي ، إلى بائعي الشورما اللبنانية و التركية ، إلى يهود الذهب و الإبريز ، مرورا بأكشاك بيع اللوطو و القمار و السجائر ، و كان الميترو بين هذا و ذاك ، يشق الشارع نضفين ذهابا و إيابا ، في كل ثلاث دقائق ، و يزين كل هذا الحمائم التي تعودت أن تحط فوق هذا الشارع ، كمسافر آت من مكان بعيد حط فوق مطار مأهول ، من بين المحلات التجارية التي كان يرتادها قبل أن يحترف مهنة الطبخ في بيته ، مطعم للأكلات اللبنانية ، حيث تعرف على مأكولات هذا البلد لأول مرة ، و أغرم به ، و هناك اكتسب معارف جددا و كان الألمان من المتوافدين على هذا المطعم الصغير يبدون إعجابهم بالأكلات الشرقية ، ما يدر ربحا ماديا هاما على صاحب المحل ، و الذي يشغل صاحبه ، أناسا من جنسيات عربية مختلفة ، المهم ، كان ذلك المطعم وجهته الخاصة للأكل ، و للأكل فقط ، رغم معرفته بأناسه ، و زبنائه

في زاوية الشارع يقبع المسجد التركي الكبير ، و الذي يعتبر الملاذ الثاني ن أو لنقل الموطن الثاني لمآت الأتراك ، تقبع الراية التركية فيه فوق المحراب باتجاه القبلة ، و يغرق في بدع كثيرة ، سيذكرها فيما بعد في موطن آخر

و في وسط الشارع ، تعرف على محل سايبر كافي ، و في نفس الوقت كان يحوي مخادع هاتفية ، اكتشفه بالقدر يوما ، حينما توجه إلى الهاتف من أجل التكلم مع أقربائه لدقائق يبتلع خلالها الجهاز ما بجيبه من نقود ، ليعود إليه فيما بعد محملا بمثلها أو أكثر من الأوروهات ليودعها فيه مقابل كليمات ، كمن يقايض جوعه بشيئ ثمين ، حين انتهائه من المكالمة ، أشار له صاحب المحل أن تعال ، فاقترب منه و سأله بالألمانية :

ـــ عذرا هل تعرفني يا سيدي ؟

فأجابه بلهجة لبنانية فهم أغلبها :

كلا ، و لكني أراك دوما هنا ، من أي البلاد أنت

ليجيبه هو بلهجة مصرية :

إيه اللي جابك من لبنان على هنا يا عم ، سايب لبنان ، و الجو الجميل ، و جي هنا تعمل إيه

ـــ ما شاء الله ، مصري ، يا أهلا و سهلا ، أجدع ناس

ــ ربنا يكرمك

ـ تشتغل ؟

ــ لسه ، بس بادور ، عالعموم مش هاقدر أشتغل ، إلا لما أبتدي جامعة

ــ طيب تشتغل معايا ؟

ــ ربنا يسهل ، اسم حضرتك إيه ؟

ــ حسن !

ــ عاشت الأسامي ، أنا يعقوب ، مهدي يعقوب

ـ أهلا و سهلا

ـ أهلا بيك

ــ يعني اتعودت شوية على جو ألمانيا ؟

ــ يعني ...

ــ بس ما فيش مساجد للشيعة هنا للأسف

ـ شيعة ؟ يعني إيه شيعة !

ــ شيعة آل بيت النبي !

ــ طب عن إذنك ، ورايا مشوار إن شاء الله نتقابل بعدين

و ذهب ، تجره خطواته ، و كلمة شيعة تتردد في ذهنه ، و هو يحاول فهم ما قاله ذلك الرجل اللبناني ، و إنه ليعترف أنه لم يسمع بتلك الكلمة من قبل و لا قرأ عنها ، فعرف تقصيره ، و اكتشف تهاونه في الإطلاع ، لأنها بدون شك إحدى الفرق التي تنتسب للإسلام ، و جهلها يعني الجهل بأحد الطرق التي يمكن أن تودي به في الأخير إلى الهاوية ، كان ذلك اللقاء هو الأول له بالطرف الآخر ، الذي ما سمع عنه إلا اليوم ، ذهب تجره قدماه ! شعر ببعض الخوف ، لسبب واحد ، أنه في غد على موعد مع مركز الهجرة و المهاجرين من أجل الحصول على وثيقة الإقامة البينية على الأراضي الألمانية ، و كان مجرد التفكير في الأمر ، يجلب له عسر الهضم ...

في غد :

شرطة الهجرة ، الوجه الآخر لألمانيا

مهدي يعقوب



  • يعقوب مهدي
    اشتغل في مجال نُظم المعلومات .. و اعشق التصوير و الكتابة
   نشر في 18 يناير 2017 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا