مَثَل جنب آدم الأيسر كمثل أرحام كل النساء كلاهما خرج أو يخرج منه قوارير تَسكُنُ بها أرواحُ الرجال وتلينُ لأجلها غصونُهم، يُسعىٰ إليها وتُعشق وتُراد ويُحن عليها وتُضم ضم الرؤوم، لكن ليست كلُ الأرحامِ سواسيةً في عينِ الحبيبِ الواحدِ؛ لأنه عندما تُحب أنثىٰ من قلبٍ؛ لا يسع لغيرها، لا يمكن أن يَنظر لغيرها لا بحاجةٍ ولا بغيرها، وإنّ من النساء ما إنْ التقيت بها تصير كل الأشياء خرافيةً رهيبةً ليس كمِثلِ سابقِها؛ حتىٰ أنّ الحبَ يجعلُ منك بناءً لا يُهد، فإنك حينما تحب؛ تعفُ وتتدينُ وتعملُ بجهدٍ أكبرٍ ويرقُّ لسانُك وتلينُ نفسُك ويُكسر غرورُك وتهدأُ مشيتُك وتسعىٰ لهندامِك وتكثرُ الصمتَ وتدعُ الهراءَ ويَعْذُب خُلُقُك وتكنُّ جوارحُك، إن من الحب ما يجعلك صريحا أنك في النهاية أسيرَ عينين بتعويذةٍ لا يمكن أن تُحلَّ ولا بالموت؛ لأنه ما من حبيب إلا أن دعى الله أن يجعل قارورتَه خليلةً له في الجنةِ وحورَه من بين كل نساء العالمين أرضًا وسماء، إن منه ما يجعلك تنمو.

ما جُن قيسٌ بليلاه إلا جنونًا يجعل منه رجلًا ما قال شاعرٌ في الغزلِ مثلَه ولا في الحب كهو، قوله {أتاني هواها قبل أن أعرفَ الهوى ..فصادف قلبًا خاليًا فتمكنا} يوضح لنا حقيقةَ الاستثناء في قلبِ كلِ من عَشِق وأُثير في قلبه برعبوبته الحسناء، وأن القلب حينما يُشغل بفتاةٍ لا يكون عُرضى ومسقط لأخرىٰ ولا يكون هنالك متسع في عقل الإنسان لأنْ يفكر في غيرها ولا شوق روحه لروح سواها، فإن من الحب ما يملأ القلب فلا يدع فيه مقدارَ عُقلةِ طفلٍ حديثِ الولادة فارغًا ولا في الروح سكونًا ولا في النفس أمنيةً أجلَّ وأعظمَ من امتلاكِ قلبِها ثم عيناها ورقيق رموشها والفراشات التي تطير من وجنتيها إذا ضحكت أو ابتسمت.

إذا فالحب تمكينٌ؛ لا يمكن أن يهبط في القلب الواحد شعورين لهما نفس المقدار، بخيلٌ لا يسمح أن يشارك فيه شخصان ولا شيئان، لا يدع فيك عضوًا ساكنًا؛ لا العقل يتوقف عن تخيلها ولا اللسان عن ذكرِها ولا القلب عن ذاك الشعور الذي أصابه ولم ينجُ منه ولا العينين عن اللحظة التي رأت فيها رموش رقيقة على وجه قمر ووجنتين ورديتين ينبت من غمزهما زهور وأفراح، وهذه الأفضلية والاستثناء ينبت منهما تعريف الغيرة وهو أنني فردّتكِ عن العالم فأنتِ أجملهم في نظري، وأحلاهم طلةً، وأرقهم سمتًا، وأعذبهم حديثا فلا أستطيع غير أن أراكِ كاملةً ما فيك عيبٌ واحدٌ يجعلك كبشرٍ أو مما خلق الله قاطبةً فلا يسعني إلا أن أراك بعين غيورة علىٰ ألّا يراكِ أحدًا ولا يطرب لصوتك ولا يرى ما أرىٰ من بهيج منظرِ غمزِك في خديك وعليكِ أن تقدري هذا الشعور الذي أنتِ السبب فيه بكمالِك في عيني وأن تستجيبي له.

تظل أجمل الخصال التي يبثُّها الحبُ في نفسِ الواحدِ أنّه يرىٰ ذاتَه الحقيقية؛ يسعى لأجلها حتى تستجيبَ للواقعِ الذي يحتم علىٰ المرءِ أن يبذُل قُصارىٰ جهدِه لأجل من يحب فيترك صراعات البشر وتنافساتهم التي قد تشكل في النفس كره الخير للغير وحب الزيادة _عن الحاجة_ للنفس، الحب يخلق منك شخصًا آخرًا يقاوم نفسه، يواجه نفسه، يتطور نفسه، يريد أن يراها بعينه لا بأعينِ الناس، لا يعنيه سوى [ماذا حقق اليوم في سبيل من يحب؟!] وحينما يكون متبادلا بين قلبين فإن ذلك هو الطريق حتى يصير القلبان قلبًا واحدًا فيه يكون ألم أحدهما مستوطنًا في جوفِ الآخر؛ لا يكاد يقول أحدهما: "آهٍ" حتى يحسها الآخر، والسرورُ سرورٌ واحدٌ، ويستغني الواحد منهما عن شيءٍ في ماضيه يحبه لأجل أنه لا يناسب خليله في القلب الواحد؛ لأنه مقارنة بين جميعِ ما خلق الله علىٰ هذه البسيطة فلا شيء يعلو فوق صوت الهيام، فلا يكون الحب حبًا إلا أن يمتزجا امتزاجًا يُحال فصلُه فلا تنساها في البعد ولا تجحدها في القرب.

ودعك ممن يقول أن الحب تقييد بل هو استرواح، فإنك لن تدرك جميلَ هذه الأيام في هذه الدنيا الصغيرة إلا عندما تحب لأن الحب عفافٌ وتقوى وبالعفاف والتقوى يدرك المرء الجنة _لأنه طرديا لا نسمح بغير أن يعف كل من عشق_ مع أمر الله وعدله فيك وإدراكك بأنك لست تريد من الحب هذه الدنيا فقط لأن الحبيب مراده عال دائما، أنت تريد حبيبك ها هنا وهناك في جنات عرضها كعرض السماوات والأرض، يُدرك الجمال حينما تمتلك قلبَ واحدةٍ من فراشاتٍ لولا أننا خُبّرنا بخلقتِنا من طينٍ لقلتَ فيها: تصنع مثل هذه للفراشات من شيء مختلف عن ذاك الذي خُلق منه البشر قاطبة لربما من ذهبٍ مصفى أو ضوءِ القمر.

نحن نحترم السياسات والدول لكن تسقط السياسة والدولة حينما يحل علي قلبي الحب، فـ [غدا تطير العصافير التي في القفص] لا يُقصد بها الأسرى ولا المساجين بل يقصد بلغتي أنه تتحرر من المرء عصافير تغرد إذا قابل العفو ممن ملكت عليه قلبه وروحه للأبد أنثاه مدللته حبيبة قلبه الممشوقة بخلق عزيز منان.

فأنا كتبت هذه المقالة لأنني واقعٌ في حبِ فراشةٍ أشد رقةً من نبتِ الزهورِ الأول ونسيم الربيع في فجر يخلو من أنفاس الكارهين، كنت ذات يوم قررت قرارًا لم أقررْ في حياتى أغبىٰ منه مجاراة مع الحالة النفسية السيئة التي كنت أمر بها والتي كنت أخشى على رقتها منها ومني؛ فأخبرتها أنني أطلقت سراحها ولم أخبرها لماذا مع كونها لم تحب الحرية وكانت تُصر أن تظل فراشتي التي أحميها بين قبضتيّ من تيارات الحياة الجارفة والأفكار الغربية المنبثقة لكني أخبرتها أنني لا أقدر، إنني أعلم جيدًا أنّ فراشتي لم تطلب مني يومًا شيئًا أكثرَ من أن تظل يداي دارَها المصون، لكن آه مني ويا ويل نفسي من الآه! لم أرى يومًا واحدًا بعدها يستحق أنْ أثابرَ من أجله، توقفت الحياة فجأة فما كان لي سبيل إلا أن أضمدَ جراح يديّ وأبحث عن فراشتي لتعود إلى حيث كانت تسكن ويسكن معها لظىٰ فؤادي المعذب بدونِها وتكّن جوارحي، وبحثت عنها فوجدها قد أصابها الذبول من بعدي وخبطّها الفكر وراودها الهم فأخبرتها أنني أريد أن تصيري طبيبي للأبد وحدك من سيرمم جروحي بعد اليوم لألا نفترق ولألا نموت، إنني أدركت في تلك الليالي أن الرجال عندما يقعون في حب فراشة لا يقدرون بُعدها ولا حتى لجني الرحيقِ لسنا بحاجةٍ لرحيقٍ إننا بحاجة لبقاء أبدي!