تفسير الوجود بين العقل و اللاعقل
تفسير الوجود
نشر في 10 نونبر 2015 وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .
يتضح جليا أن عامة الناس دائما ما يميلون الى إحالة كل ما لا يستطيعيون تفسيره ضمن إطارهم الفكري والعقدي إلى ما يستحيل تفسيره وإنزاله منزلة الأمور الغيبية.
بداية من المتفق عليه أننا مأمورون بالتفكر، فما الهدف من التفكر في هذا الخلق البديع اذا لم نحاول تفكيكه وتحليله شبرا بشبر.
إن الله خلق الكون وسخره للإنسان عموما، فهو المخلوق الوحيد صاحب الوعي و القدرة على التمييز والإختيار، فالكون بطبيعته مصنوع وفق قوانين طبيعية منذ الأزل مستمرة وستستمر وهكذا خلقت ولذلك ستستمر.
حتى المعاجز عموما قد تكون قدرات أعطاها الله لعباده وفق قوانين الطبيعة، ولكن المعاصرين لتلك الحقبة الزمنية لم يكونوا قد وصلوا لتلك الدرجة من العلم والمعرفة. وقد يسهل تصور ذلك في ما لو أن جوالا أو حاسوبا بعث الى احدى الامم الغابرة الم تكن لتعجز وتخشع أمام هذا الإعجاز المعجز؟
ومن هنا يجب أن نعود للموضوع الرئيسي، وهو وصف الظواهر الطبيعية وبداية الكون والإنسان بأنها من علم الله الغيبي ورفض التنظير والبحث في هذا المجال، فهذا مما لا يمكن وصفه إلا بأنه جرم عظيم ومذبحة إن لم تكن مجزرة للعقل الإنساني.
دعونا نتصور أن أحد العلماء عاد بالزمان ألفا او ألفين من السنين وقصد أحد المجتمعات المتدينة وقال لهم: لقد إكتشفت كيفية نزول الأمطار! فهي ظاهرة طبيعية تحدث نتيجة لعوامل عدة، وأنني أستطيع التنبأ بوقت وكمية نزولها. سيردون عليه بويحك أليس الله من يرسل الأمطار لقوله تعالى: (وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته وهو الولي الحميد). وطبعا سينهالون عليه بأوصاف الزندقة والهرطقة.
ولكن الآن لا يرى عامة الناس مشكلة في التنبأ في معدل هطول الأمطار واتجاهها ولا يعتبر ذلك تعد على ما هو ليس من صلاحية البشر، ومحاولة للنظر في ما هو غيبي وينطوي تحت مفهوم القضاء والقدر الحتمي.
والحقيقة أن الحقيقة تتكشف يوما بعد يوم عن ما كان غيبيا كي يحول إلى تفسيرات علمية دقيقة. وهذه وظيفة الإنسان التي أرسل إليها وهي أن يفكك ألغاز هذا الوجود ويحل كل معادلاته ويكتشف جميع متغيراته. ومن يتخلى عن هذه الوظيفة فقد تخلى عن أغلى ما يملك وقد أساء إلى نفسه إساءة بليغة.
لو كان لأحد الصلاحية أن يسأل عن سبب البحث في موضوع معين أو سبب التنظير في قضية ما لكانت الكنيسة الكاثولوكية صاحبة الحق الأسمى في ذلك وقد فعلت! حين عوقب جاليليو بالحبس نتيجة لأبحاثه حول حركة الشمس ونقائها وطرحه لمفهوم جديد عن مركزية الكون وحركة الأجرام. ونتيجة ذلك الصراع معروفة وآثاره معروفة أيضا ومازالت تؤثر في المجتمعات الغربية وتهزها إلى يومنا هذا.
قد يعترض أحد على ما سبق بأن نظرية جاليليو وكوبرنيكس كانت خاطئة، وأن العلم الحديث قد أثبت بأن الشمس ليست مركز الكون كما قال جاليليو، إذا لا يمكن الإعتماد على العلم في تفسير الوجود. قد يصح هذا الطرح من جانب الحقيقة ولكن يجب عدم إغفال مسيرة البشرية في تطور العلم حيث أن العلم في تطور دائم ومستمر، فتطور العلم عادة ما يأتي عن طريق التجربة والخطأ، وأن أب العلوم والفلسفة أرسطو قد تم نفي أغلب ما جاء به من نظريات علمية بخصوص الإنسان والكون، أيضا نيوتن أب الفيزياء الحديثة تم نسخ مفهومه عن الجاذبية بنسبية آينشتاين، ومن حيث تطور الإنسان فنظرية داروين التطورية بالإنتخاب الطبيعي قد إستبعدت نظرية لامارك التطورية بالإستعمال والإهمال، وقد يتم إستبدال أي نظرية مهيمنة اليوم بنظرية أخرى غدا.
ويجدر الإشارة هنا إلى أن النظرية ليست حقيقة علمية بحد ذاتها بل هي تفسير علمي يربط بين مجموعة من الحقائق عن طريق إستخدام الأسلوب العلمي.
فلا يحق إيقاف عجلة العلم بحجة إحتمالية الخطأ، فلو طرح هذا الطرح من قبل لما وجد هذا العلم أصلا كي نتناقش حوله، ولظل الإنسان يعيش في أغوار الوديان وعلى رؤوس الجبال وبين جدران الكهوف وتحت شمس الصحراء الحارقة. والحقيقة ليست حقيقة قطعية فهي متغيرة من زمان لآخر. ويجب أن نعرج على نظرية دايفيد هيوم التجريبية التي تفيد بأن الإنسان يتحصل على المعلومات عن طريق الحواس وأن الحواس منقوصة فلذلك ستظل المعلومات منقوصة، فالإنسان مع تطور العلم يتطور أسلوبه في الرصد وإستقبال المعلومات ومع ذلك سيتطور ما لديه من معلومات.
في الختام، على الأمة أن تلملم أرواقها المتناثرة وأن تعيد فرز موروثاتها وفق معطيات العصر والمعطيات العقلية لأفرادها. فمحاولات التجهيل والإستخفاف بعقول الناس إن نجحت لفترة طويلة لن تستمر. ويجدر التنويه إلى أن هذه ليست دعوة للعلمانية أو للخروج عن الإطار الديني، ولكنها دعوة لإعمال العقل في كل ما يمكن وعدم الخضوع للحدود المزيفة التي يضعها بعض المنتفعين من جهل الأمة، ومن تمنطق لم يتزندق.
محبكم/ أحمد رشيد
-
أحمد رشيدطالب هندسة مهتم بالشأن العام والعلوم عموما.