سفينة السيد (ع) - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

سفينة السيد (ع)

سفينة السيد (ع)

  نشر في 21 شتنبر 2021 .

سفينة السيد (ع)

في البدء كان مجرد حلم , ولم يتبق منه إلا صورة باهتة لأحداث سريعة ولكنها كانت كافية لتؤرقه بعد صحوته المباشرة من النوم , علقت من ذلك الحلم في ذاكرته لقطات أشبه فلم قديم , ولكنه كان مذهولا بدلالاته التي تتجاوز كونه مجرد اضغاث أحلام , قضى أياما قليلة وهو يحاول فهم مدلولاته ويستعرضها على أفكاره التي تعودت محاولة فهم بعض الأحلام بطريقة يشوبها الكثير من القلق , ولأنه تعود على النجاح غالبا في فهم أغلب تلك الأحلام وربطها بواقعه الخاص وبما يعتقده من نظريات ( خاصة به ) , كاختزان المخ عبر تلافيفه وعصبوناته التي مازال الكثير منها عصيا على الفهم والتحليل لعلماء البشرية , لجميع الصور

والشخصيات والمواقف والأحداث وحتى الأصوات والروائح , وما يتبع ذلك من مشاعر السعادة والألم والخوف , بل تجاوز بخيالاته كل ذلك ليعتقد بوجود أماكن سرية داخل المخ لاختزان كل ما سبق بطريقة وراثية من الأجداد وحتى له ثم سيورثها لأحفاده ذات يوم , كما يعتقد (متجاوزا الحد في خيالاته) , أنه سيأتي يوم على البشر ويشاهدون تلك الملفات المختزنة داخل المخ عبر جهاز وكأنها فلم شديد الوضوح عبر شاشة ما , وكمثال على ذلك كان السيد (ع) يفكر أحيانا لماذا يخاف الكثير من الناس اليوم من البرق وصوت الرعد وشدة المطر وهم داخل مساكنهم المسلحة والآمنة والتي تتوافر فيها كل وسائل الأمان والترفيه , ورغم وجود أجهزة للدولة مستعدة للمساعدة دائما ؟

السيد (ع) يُرجع كل ذلك نتيجة لذلك الشعور المختزن في مخازن أمخاخنا لما كان يشعر به الأجداد الأوائل من خوف نتيجة تعرضهم لتلك الظواهر في ظل الحياة البدائية سواء في الصحاري أو الغابات أو السواحل أو الجبال , ففي تلك المخازن أو الملفات السرية داخل المخ مازالت تقبع مشاعر الخوف وصور الكوارث التي شاهدها أولئك الأجداد , والتي تجد طريقها لمشاكسة العقل الواعي أحيانا سواء في اليقظة أم في الأحلام , ولم تكن الكثير من تلك الأحلام تؤرقه أو تأخذ حيزا من تفكيره حين يعلق شيء منها في ذاكرته دائما , مهما كانت غريبة وعجيبة أو مخيفة أو موغلة في الرومنسية , فلديه نظرية راسخة هو مؤمن بها أن كل الأحلام ليست إلا تسلل عشوائي من الجزء الخاص في المخ المسؤول عن اختزان كافة الصور والأحداث والشخصيات والروائح والأصوات وغير ذلك الخاصة به أو ربما حتى لأجداده القدماء , كما يعتقد ولا يشك في اعتقاده أنه أثناء النوم يبدأ المخ في استعراض أحداث اليوم بكل ما فيه من مكونات , ويبدأ في تصنيفها عبر ملفات معينة داخل حجيرة في المخ خُلقت لذلك , ثم أثناء النوم يفقد الإنسان وعيه , فتبدأ تلك الملفات تسرب بعضا من الصور العشوائية مكانيا وزمانيا وتختلط بينها الأصوات والشخصيات والروائح وكذلك المشاعر سواء الخوف أو الفرح أو الشهوة أو حتى مشاعر الهلع والذعر , لذلك تبدو الأحلام كعرض عشوائي تختلط في الشخصيات القديمة بالحديثة والمهمة بالعابرة وربما السطحية , فنلاحظ مثلا أننا نشاهد عبر أحد تلك الأحلام صورة شخص ربما مرّ في حياتنا بصورة عابرة ولا أهمية له في حياتنا فلماذا نتفاجأ بظهوره في تلك الأحلام , هذا بسبب أن المخ قام عشوائيا بتسريب صورته من أحد تلك الملفات المختزنة عشوائيا وأقحمه في الحلم بطريقة أحيانا لا معنى لها , وكذلك أحيانا تختلط في المشاعر الجميلة بالمخيفة والأصوات الهادئة بالمخيفة , وربما تتناول الأحلام رغباتنا المكبوتة أو تلك التي نتمنى حدوثها ولم تحدث أو التي نخاف أن تحدث , فيستغل المخ حالة ألا وعي ويقوم بتصوير تلك الرغبات والأماني والمخاوف والشهوات والخوف بطريقته الخاصة التي نجهلها والتي ربما تتسم بالعشوائية نظرا لمليارات الصور والأحداث والشخصيات والأصوات والروائح التي تمتلئ بها خزائنه , ولذلك يقوم المخ بإعادة ترتيب كل تلك الملفات المتسربة عشوائيا أثناء ألا وعي عند الاستيقاظ , ومن هنا لا نكاد أحيانا أن نتذكر تلك المشاهد العشوائية أو حتى المنتظمة بالكامل فور استيقاظنا من النوم لأن المخ يحاول إعادة ذلك العبث الذي حصل في حالة ألا وعي قبل أن تدرك ذلك (فتلومه على ذلك الإهمال والتقاعس والعبث ربما) .

أحيانا يعتقد السيد (ع) أننا في المستقبل ربما نستطيع قضاء بعض الوقت عبر جهاز ما يستطيع تحويل كل تلك الداتا الفيزيائية الخفية في المخ إلى جهاز عرض ينقل الصورة والصوت والرائحة والشعور عبر تقليب صفحات حياتنا السابقة , ونستعيد أجمل ذكريات العمر بكل أحاسيسها وحتى ربما لحظات الألم والحزن , واستعادة المواقف الجميلة مع من فقدناهم ذات يوم .

ولكن لنعود لذلك الحلم الذي حمل السيد (ع) نحو حوارات فلسفية وأخلاقية وإنسانية مع ذاته بعد أن علقت منه ثواني بسيطة ولكنها ذات عمق أرقه عدة أيام .

كان السيد (ع) مسافرا على سفينة ما من بلد إلى بلد , وكأنه يتجول على سفينة التايتانيك الشهيرة , كان يتجول بسعادة وفخر وخيلاء بين سطحها تارة وبين أدوارها المتعددة ومطاعمها وصخبها وركابها الفاحشي الثراء والذي تبدوا عليهم سمات علية القوم أو كما يقال الطبقة البرجوازية , كان يتملكه شعور غريب من السعادة والنشوة لقضاء الوقت بهذه الفخامة والرقي , ولكن القدر أو الحلم لم يتركه يغرق في نشوته تلك , فساقته أقدامه نحو (بدروم السفينة) , وهناك شاهد مالم يكن يتخيل , والأغرب من ذلك كانت أحداث الحلم واضحة المعالم وشديدة الوضوح بكل ملحقاتها من صوت ولون ورائحة ومشاهد , كأن الجحيم يُصنع في هذا المكان , كانت صورة مقتبسة من خيالاته عن جهنم وما يحصل فيها من عذاب مرير للخاطئين , ولكن الفئة التي شاهدها في قاع الجحيم أو قاع السفينة , كانت تشير بصورة واضحة بأن نزلاء هذا الجحيم هم أناس فقراء بسطاء وليسوا زنادقة مجرمين يستحقون هذا العذاب , أكثر ما آلم السيد (ع) وجعل حلمه لا يُنسى هي تلك المشاهد الواضحة بل وشديدة الوضوح لأنواع العذابات والشقاء التي كانت تنزل بأولئك القوم .

دخل السيد (ع) في دوامة هستيرية بين ما شاهده على تلك السفينة من حياة المترفين في الأدوار العليا , وبين ما يعانيه الفقراء في قاع السفينة , وحاول أن يجد مبررا لحياة الفئتين .

لماذا استحق نزلاء الأدوار العليا ذلك النعيم ؟ ولماذا استحق نزلاء القاع ذلك الجحيم ؟

لماذا لم يحاول قادة السفينة أو نزلاء الأدوار العليا مد يد المساعدة من غذاء وماء وعلاج وملابس لنزلاء القاع ؟

وفي لحظة يأس من محاولاته إيجاد أجوبة لتساؤلاته تلك , قرر أن يحسم الموقف ويضع حدا لأفكاره وحيرته وعجزه عن الفهم أن يتخذ موقفا صارما ليحل المشكلة .

قرر السيد (ع) أن يضع متفجرات في قاع السفينة ويخلص أولئك الأشقياء من حياتهم , كما يعاقب أولئك الفاسدين على بذخهم وعم الاهتمام أو مساعدة نزلاء القاع , وضع السيد(ع) المتفجرات ثم صعد لسطح السفينة وبيده المفجر , وأثناء استعداده لتفجير السفينة باغتته تساؤلات فلسفية جديدة .

فمن أعطاه حق الانتقام والعقاب ؟-

هل كل أولئك الأثرياء يدركون ما يحصل في قاع السفينة ؟-

-هل كل أولئك المعدمين في قاع السفينة طاهرون وأبرياء ويستحقون من ينتقم لهم ؟

هل هو حل مثالي للمعدمين أن يقتلوا دون أن يؤخذ رأيهم ؟-

-هل اطلع السيد (ع) على مستقبل أولئك المعدمين وأنها لن تتحسن أحوالهم ويعيشوا ذات يوم برضى ونعيم ؟

هنا صحا السيد (ع) من نومه ومازالت تلك الصور السينمائية حية بكل وضوح وقوة في ذاكرته مع كل تلك التساؤلات التي مرت بخاطره أثناء الحلم , وأدرك بعد تفكير عميق أن هذا الحلم يجسد عالم البشر بكل مكوناته وأحداثه منذ أن بدأت البشرية , فالغني يعيش بجنب الفقير , وهناك من يهتم وهناك من لم يهتم , وهناك النعيم والثراء كما هو الفقر والألم , وهناك من يتمنى عالما أفضل وهناك من لا يشغل باله بهذا العالم أصلا , وهناك من يحاول أن ينتقم , وهناك من يحاول أن يردعه , وهناك من يلقي بأطنان الطعام في المزابل , وهناك من يموت جوعا , وهناك من يملك كل شيء , وهناك من لا يملك شيئا .

قرر السيد (ع) أن يترك العالم كما هو في واقعه , كما ترك السفينة كما هي في حلمه , فالملك لله , فهو الذي يُغرق السفينة , وهو من يقيم القيامة على أهل الأرض ,أو يتركهم حتى حين , وهو ليس إلا أحد عبيده الذين يأملون أن يعيشوا حياة كريمة فقط . 


  • 1

   نشر في 21 شتنبر 2021 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم













عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا